الهياكل والعمليات في علم النفس: الثقافة، الأخلاق، والمعنى

85 المشاهدات

✍ بقلم: أحمد حمدان
🔹 أخصائي علم النفس الإكلينيكي
🔹 باحث دكتوراة في علم النفس الاجتماعي السياسي الاقتصادي – جامعة ساراتوف الحكومية (SSU)


مقدمة

في خضم التحولات الاجتماعية والثقافية والتكنولوجية، بات من الضروري في علم النفس أن يتجاوز دراسة السلوك الظاهر والعمليات الذهنية المباشرة، إلى نماذج أعمق وأشمل تراعي العلاقة بين الهياكل النفسية الثابتة نسبيًا، والعمليات الديناميكية المتغيرة التي يخضع لها الفرد أثناء التفاعل مع بيئته. إن فهم الإنسان لا يكتمل دون مراعاة البُعد الثقافي، والمعياري، والمعنوي، إذ أن هذه الأبعاد تُشكّل ما يمكن تسميته بـ”الفضاء النفسي الأخلاقي”. في هذا الإطار، تظهر أهمية النماذج التكاملية التي تجمع بين البنية والعملية ضمن نسق نظري يراعي الثقافة، الأخلاق، والمعنى (СГУ، 2021).


الإطار النظري: من الفيزياء إلى النفس

تستند هذه المقالة إلى النموذج الذي طورته جامعة ساراتوف للأبحاث، كما ورد في مرجعها التأسيسي: الهياكل النظامية والعمليات في علم النفس: الثقافة، الأخلاق، المعنى (СГУ، 2021). يعتمد هذا النموذج على الدمج بين مفاهيم مأخوذة من الفيزياء النظرية، مثل “نظرية الحقول” والنمذجة ثلاثية الأبعاد، مع مقاربات من علم النفس الثقافي والديناميكي والمعرفي.

يرتكز هذا النموذج على ما يُعرف بـ”النهج الذري” (Atomistic Approach)، الذي يفترض أن الإنسان يتكون من وحدات معرفية وعاطفية وسلوكية تتفاعل داخل حقل متغير، تتأثر خصائصه بالقيم والمعايير الاجتماعية والرمزية المحيطة. يشبه هذا النموذج من الناحية البنائية نموذج الحقول الفيزيائية الديناميكية، حيث لا يمكن عزل الجسيم عن الحقل، كما لا يمكن فصل الإنسان عن سياقه الأخلاقي والثقافي (Глухова & Аксеновская، 2021).


إنشاء النموذج: التقاء ثلاث روافد معرفية

يتكوّن النموذج النفسي القيمي الذي نعتمده من ثلاثة مكونات أساسية:

  1. الهياكل النفسية المعرفية والوجدانية: وهي مستمدة من نظريات بياجيه (1950) وفيغوتسكي (1978)، وتُعنى بكيفية تنظيم الفرد لمعارفه وعواطفه ضمن أنظمة داخلية مستقرة نسبيًا.
  2. العمليات النفسية الديناميكية: وهي مرتبطة بالمدارس الديناميكية مثل التحليل النفسي، وتهتم بكيفية تغير التنظيم النفسي عبر الزمن والضغوط والتحولات، خصوصًا أثناء التفاعل الاجتماعي أو التعرض لأحداث صادمة.
  3. الإطار الثقافي والأخلاقي والمعنوي: مستمد من علم النفس الثقافي والاجتماعي والوجودي، ويشمل النسق القيمي الذي يوجه التفسير والمعنى ويضبط السلوك.

قصة يوسف عليه السلام كنموذج تطبيقي للهياكل والعمليات

تمثل قصة يوسف عليه السلام مثالًا تطبيقيًا متكاملًا لهذا النموذج، حيث نجد فيها تداخلًا وتفاعلًا بين البنية النفسية والعمليات الديناميكية والإطار الثقافي والأخلاقي والمعنوي.

  1. الهياكل النفسية المبكرة

يبدأ النص القرآني بتكوين أولي للهوية:
“إني رأيت أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين” (القرآن الكريم، يوسف: 4).
هذه الرؤية تُعبّر عن بنية داخلية مستقرة نسبيًا، تتضمن إدراكًا ذاتيًا للدور والمكانة، وتشير إلى نشأة مخطط معرفي مبكر حول التميّز والقيادة. ووفقًا لبياجيه (1950)، فإن الطفل في هذه المرحلة يبني مفاهيمه من خلال رموز ومعاني يشكل بها واقعه الداخلي.

  1. العمليات النفسية والتحول الديناميكي

يتعرض يوسف عليه السلام لسلسلة من الأحداث التي تتطلب مرونة نفسية وتكيفًا مستمرًا:

في البئر: تجربة الهجر والخوف تشكل أول صدمة نفسية، لكنها لم تدمّر البنية بل بدأت بتحفيز تكيف داخلي (يوسف: 15).

في بيت العزيز: يدخل في بيئة جديدة، ويتعلم مهارات التكيف مع السلطة، مما يُظهر قدرة البنية على التوسع (يوسف: 21).

في السجن: يظهر النضج النفسي من خلال تفسيره لرؤى السجناء، مما يعبّر عن تحويل المعاناة إلى معنى (يوسف: 36–42). وقد أشار فيغوتسكي (1978) إلى أن تطور التفكير الرمزي يتسارع عندما يكون محفزًا باحتكاك اجتماعي عميق.

في الحكم: تنضج البنية التنفيذية في شخصيته، ويتحول إلى صاحب قرار ومخطط اقتصادي، يدل على اكتمال التكوين النفسي التنظيمي (يوسف: 55–56).

  1. البنية الأخلاقية والثقافية

أوضح موقف أخلاقي يظهر في رفض يوسف لامرأة العزيز رغم توفر الدوافع والفرص:
“معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون” (القرآن الكريم، يوسف: 23).
هذا القرار يُعبّر عن بنية أخلاقية ضابطة، ليست ناتجة فقط عن تربية دينية، بل عن بنية نفسية تجاوزت الدافع اللحظي نحو ضبط داخلي نابع من منظومة قيمية متكاملة، تتوافق مع ما أشار إليه فرانكل (1985) حول دور القيم في حماية الفرد من الانهيار تحت الضغوط.

  1. الذروة المعنوية والاندماج البنائي

تبلغ الشخصية قمة النضج عندما يقول:
“إنه من يتقِ ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين” (القرآن الكريم، يوسف: 90).
يتحقق في هذه اللحظة التكامل بين البنية (التقوى)، والعملية (الصبر)، والمعنى (الجزاء الإلهي). وبهذا يظهر أن الشخصية قد تجاوزت الألم والانتقام إلى مستوى أعلى من الفهم والتسامح.


النموذج الذري في النمذجة النفسية والثقافية

اعتمد هذا النموذج بشكل تكاملي على نظرية “النموذج الذري” التي طوّرتها غلوخوفا وأكسينوفِسكايا (2021). في هذا النموذج:

يُفهم الفضاء التفاعلي على أنه نظام ثلاثي الأبعاد (X، Y، Z)، يتم فيه تمثيل الأفراد كوحدات ذات اتجاهات سلوكية.

تتغير مواقع الأفراد حسب تأثيرات متبادلة بين العناصر البنيوية والثقافية والقيمية.

يتحرك الإنسان داخل حقل معرفي-عاطفي يتأثر بالزمن والمكان والتاريخ الشخصي.

وبذلك، نجد أن النموذج يقدم وسيلة تفسيرية لفهم كيف يتغير موقع الإنسان في “الحقل النفسي” استنادًا إلى تفاعلاته المعرفية والأخلاقية.


خاتمة

إن نموذج الهياكل والعمليات في علم النفس يمثل تحولًا نوعيًا في فهم الإنسان، إذ لا يُنظر إليه كمجرد فاعل سلوكي أو متلقٍ سلبي للمثيرات، بل ككائن متعدد الأبعاد، تتفاعل داخله بنى معرفية ووجدانية مع عمليات ديناميكية متغيرة، ضمن إطار ثقافي وأخلاقي ومعنوي غني.
وتُعد قصة يوسف عليه السلام تجسيدًا لهذا التفاعل المعقد، حيث تبرز قوة النموذج في تفسير سلوك الإنسان من منظور بنائي-تفاعلي-معنوي.

ندعو الباحثين والممارسين الإكلينيكيين إلى استلهام هذا النموذج في تطوير أدوات التقييم والتدخل النفسي في البيئات المتعددة ثقافيًا، بما في ذلك العالم العربي، حيث يشكّل المعنى والقيم محورًا أساسًا في تكوين النفس.


المراجع

  1. СГУ. (2021). Ордeрные структуры и процессы в психологии: Культура, этика, смысл. Издательство Саратовского университета.
  2. Глухова, О.Е., & Аксеновская, Л.Н. (2021). Моделирование организационного и культурного взаимодействия: атомистический подход. Саратов: СГУ.
  3. Frankl, V. E. (1985). Man’s Search for Meaning. Boston: Beacon Press.
  4. Piaget, J. (1950). The Psychology of Intelligence. London: Routledge.
  5. Vygotsky, L. S. (1978). Mind in Society: The Development of Higher Psychological Processes. Harvard University Press.
  6. القرآن الكريم، سورة يوسف.

آخر المشاركات